( الصور الملكوتيه )
مرسل: الأحد 16-8-2009 6:51 am
[]تجلي الإنسان و أعماله في عالم البرزخ في صورتهما الملكوتيه
من كتاب معرفة المعاد
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي´ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رِبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَ فِي الاْخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ.[1]
لقد ذُكر سابقاً أنّ الإنسان حين يرحل عن الدنيا فإنّ عالمه ونشأته سيَتبدّلان، فهذا العالم عالمٌ تمتزج فيه السعادةُ و الشقاء، والحقّ والباطل، و الصّدق و الكذب، و الخلوص و التلوّث؛ أمّا ذلك العالم فعالمُ الصدق المحض و الحقيقة و الواقعيّة المحضة.
و إذا ما حصل هناك أحياناً تدليس و تلبيسٌ في هذا العالم، فإنـّه لن يكون ممكناً هناك، إذ ستظهر حقيقة الاشياء هناك كما هي، فلايمكن
لاحد أن يقدّم نفسه أو يُجلّيها بغير ما هي عليه.
إنّ ذوات و ملكات الإنسان و أخلاقه و أعماله التي سار عليها في الدنيا ستتجلّي و تتمثّل هناك في صورتها و هيئتها الواقعيّة، فلا يكون هناك اختلافٌ بين الظاهر و الباطن، لكأنّ البواطن و الخفايا صارت جميعها ظاهرةً لا باطنَ لها، أو كأنّها بواطن لا ظاهر لها، أي أنـّها حقيقة واحدة لاغير.
كما أنّ سبيل سعادة أيّ إنسان أو شقائه في هذه الدنيا إلی حين موته ليس مشخّصاً أو محدّداً، ولكن بمجرّد موت الإنسان فإنّ سبيله و طريقه سيصبح مباشراً إمّا إلی الجنّة أو إلی النار، إمّا إلی السعادة أو إلی الشقاء.
تجلّي الإنسان في البرزخ في صورة ملكوتيّة
إنّ الموجودات التي سيشهدها الإنسان في ذلك العالم ستتجلّي له في صورها الواقعيّة، و هكذا فإنّ الاعمال التي قام بها الإنسان ستتجلّي له في صورها الواقعيّة الملكوتيّة البرزخيّة، كما أنّ الملكات التي اكتسبها في الدنيا و الاخلاق التي تحلّي بها ستكون مشهودةً له هناك في صورة واقعيّة ملكوتيّة. يُضاف إلی ذلك أنّ أفراد الإنسان أنفسهم سيتمثّلون و يتشكّلون في صورهم الواقعيّة، و سيخرجون في قوالبهم الصوريّة المثاليّة.
و قد علمنا من الروايات التي ذُكرت فيالعديد من المجالس الاخيرة في شأن أعمال الإنسان التي تتجسّم له في عالم البرزخ، بما فيها أعماله الحسنة أو الخبيثة؛ إنّ صورة جميلة ذات قوام فاتن و حديث جذّاب ستتجسّم له ـ مثلاً ـ فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أرَ من قبلُ صورة أجمل منك و لا أطيب رائحةً ولاأحسن لباساً؟
فتجيبه: أنا عملك الصالح الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم الجزاء!
و قد تتجسّم له صورة قبيحة كريهة و مُنفّرة تبعث علی الاشمئزاز والتقزّز و الضجر بسبب قبحها و رائحتها الكريهة، فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أشاهد من قبلُ صورةً بهذا القبح و الكراهة و النفور، و لم أشمّ من قبل كمثل رائحة عفونتك؟
فتجيبه: أنا عملك القبيح الكريه الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم القيامة!
ارتباط الملكوت مع أشكال الموجودات و صورها
إنّ الإنسان يمكنه في هذه الدنيا أن يُدرك أنّ الاعمال التي تصدر منه لها و جهان: الاوّل الوجه الظاهر، و هو متن العمل وجسده و هيكله، والثاني: الوجه الباطن، و هو روح العمل؛ أي الاختيار و الخلوص و النيّة الطاهرة و التقرّب إلی الربّ المتعال، أو ـ لا سامح الله ـ السُمعة و الرياء وحبّ الظهور و التظاهر الخاطي و التعدّي؛ تلك النيّات التي يقوم الإنسان بعمله علی أساسها.
فيمكن للإنسان أن يصلّي في هذه الدنيا، إلاّ أنـّه قد يصلّي لربّه، كما أنـّه قد يصلّي حبّاً للظهور، و يمكن أن يقوم بذلك بنيّتين مختلفتين؛ لذا فإنّ روح الصلاة ستكون مزدوجة بينما يبقي هيكل الصلاة، أي العمل الظاهريّ واحداً.
علی أنـّه ليس لاحد غير عالِم الغيبِ عِلْمٌ بروح الاعمال وباطنها، فقد يمكن أن يصلّي الإنسان فلا يُدرك رفيقه الذي يقف إلی جواره هل أدّي هذه الصّلاة خالصةً لوجه الله الكريم، أو أقامها لباعثٍ وداعٍ آخر.
و قد يصوم أو يزكّي أو يُقيم جسراً أو يبني مسجداً أو ينشر كتاباً، تلك الاعمال التي تستلفت الانظار بظاهرها، إلاّ أنّ أحداً لايعلم بباطنها، فقد يكون فَعَلَ هذه الاعمال من أجل رضا الله سبحانه، و قد يكون أنجزها حبّاً للجاه و الشهرة.
لقد كان ظاهر العمل جيّداً و جميلاً، إلاّ أنّ له باطنين مختلفين ومتعارضين، فإن كان قد فعله لله تعإلی و في سبيله، فإنـّه سيكون عملاً مؤدّياً إلی التقرّب و ذا باطن حسن و محبوب، و سيجعل ذلك الباطن الحَسنُ الممدوحُ روحَه خفيفةً مُبتهجةً، و سيبعث الراحة في نفسه، وسيرفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة عنه، فيوصله شيئاً فشيئاً إلی حريم أمن الله وأمانه.
أمّا إذا كان قد قام به لغير وجه الله تعالي، فإنّ باطن هذا العمل سيكون فاسداً و مهلكاً؛ و بدلاً من أن يسوقه إلی الجنّة فإنـّه سيدنيه إلی جهنّم، لانـّه رياء و الرياء حرام، الرياء عبادة أصنام وعبادة إنسان و شرك بالله، و سيبعث هذا العمل الخمولَ في روحه و الملل و التعب في نفسه، وسيحدّ من قدرته علی التحليق في فضاء عالم القُدس، و يُبعده شيئاً فشيئاً عن حريم القُرب، ثمّ يجرّه فيالنتيجة إلی مَظهر عالم البُعد: (جهنّم).
و بنفس الدرجة التي يحسّ بها الإنسان في هذه الدنيا بالملل و الوهن و الضجر من العمل القبيح، و بالبهجة و اللذة من العمل الحسن المقبول؛ فكذلك الامر في عالم البرزخ، حيث يزداد ظهور المخفيّات و انكشاف السرائر، و حيث يسقط قالب المادّة فتظهر الصور البرزخيّة للاعمال التي قام بها الإنسان تبعاً إلی روحها الملكوتيّة، و حيث يتجلّي للإنسان كلّ عمل بما يتناسب وذلك العالم؛ فسيكون أثر بواطن الاعمال أكثر بالآف المرّات، وسيجد الإنسان هذه الآثار القويّة و هي تُمسك بتلابيبه. و لذلك فإنـّنا إذا ما أغضينا عن ظاهر الذنب و هيكل العمل، فإنّ باطن وروح الكذب و الزنا و الغشّ في المعاملة و الغضب و الشهوة في غير موضعها، والبخل و الحسد و الحقد و العبوديّة لغير الحقّ ستُعلن وجودها بحقائقها وواقعيّاتها. كما أنّ الاعمال الصالحة من الصلاة و الزكاة و إعانةالفقراء والتواضع للحقّ والعزّة و الشرف و الحياء و العصمة و العبوديّة للمعبود المطلق ستكون ـ هي الاُخري ـ موجودة بواقعياتها و حقائقها.
لكأنّ العالم يتبدّل و هيكله يتقوّض، و كأنّ تلك الاعمدة والاسس التي شُيّدَ عليها ذلك العالم أعمدة عجيبة غير الاعمدة والاسس التي شُيّد عليها هذا العالم، و كأنّ فضاء ذلك العالم فضاء آخر غير هذا الفضاء.
إنّ الافراد الذين يعيشون في هذه الدنيا هم جميعاً في هيئة إنسانيّة، إلاّ أنّ أخلاقهم تتباين و تختلف مع بعضها، و قد أدّي ذلك الاختلافُ في الاخلاق و الملكات، و التفاوتُ في الغرائز إلی اختلاف في الاشكال والصور. و هذه المسألة من أدقّ مسائل العلوم الإلهيّة و كيفيّة نزول الوحدة في عالم الكثرة. بحيث أنـّنا لو فرضنا أنّ العلوم المادّيّة ستترقّي بحيث يمكنها كشف علاقات المادّة مع المعني، فإنـّه سيُمكن في تلك الحال، من ملاحظة الاشكال المختلفة للانبياء و الائمّة و أولياء الله، الوقوف علی حقيقة مقام بواطنهم، و سيمكن من الاشكال و السيماء و الملامح المختلفة لكلّ فرد من الافراد، الوقوفُ علی غرائزه و ملكاته وأخلاقه. حيث أنّ هذا المعني ثابت للانبياء و الائمّة و أولياء الله الذين يتعرّفون علی أخلاقيّات وملكات أيّ فرد من ملاحظته ومشاهدته مرّةً واحدة، و يمكن القول حقّاً إنّ هذه معجزة للقرآن الكريم حيث يقول:
وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤمِنُونَ.[2]
كما أنّ اختلاف أشكال الحيوانات و صورها مبنيّ ـ هو الآخر ـ علی اختلاف غرائزها و ملكاتها و صفاتها، فأحدها علی هيئة القطّة، و الآخر بشكل الكلب، و آخر بصورة الثعلب، و آخر بشكل الذئب، و آخر بشكل الاسد، و آخر علی هيئة الفيل، وهكذا سائر أصناف الحيوانات من الوحوش و الزواحف والحشرات و الطيور في السماء و الاسماك في البحار، حتّي الذبابة و البعوضة و أمثالها.
عالم الطبع نزول لعالم الملكوت
و هذا الاختلاف ناشي من اختلاف كميّة و كيفيّة غرائزها وصفاتها، فقد أدّي اختلاف و كيفيّة نظامها و هيكلها الروحيّ والملكوتيّ إلی اختلاف كيفيّة صورها و أشكالها و اختلاف الكميّة و الكيفيّة في بدنها المادّيّ و جسمها الطبيعيّ، بحيث تشكّل البدن الطبيعيّ لكلّ حيوان؛ والذي له نوع من الاتّحاد مع نفس ذلك الحيوان؛ بالشكل النازل لنفس ذلك الحيوان.
فإذا ما ارتقينا بسلّم المعرفة من بدن حيوانٍ ما، فإنـّنا سنصل إلی نفسه الملكوتيّة فنلاحظ و نشاهد تلك النفس كما هو حقّه، كما أنّنا لو أُرينا النفس الملكوتيّة لحيوانٍ ما لم يسبق لنا مشاهدة شكله الظاهريّ وبدنه الجسمانيّ والطبيعيّ، لاستطعنا ـ عند وجود قوّة المعرفة ـ أن نرسم ونصف الشكل الظاهريّ لذلك الحيوان كما هو حقّه.
إنّ القطّة التي تلاحظونها بهذا الشكل و الهيئة، صارت كذلك بسبب امتلاكها صورة ملكوتيّة خاصّة. بحيث أنـّنا لو أردنا أن نلبّس تلك الصورة الملكوتيّة بلباس المادّة لما كانت شيئاً غير شكل القطّة و هيئتها هذه. كما أنّ الصورة الملكوتيّة للكلب هي الافتراس و الغضب والوفاء، مضافاً إليها احترام الغنيّ و عضّ الفقير؛ لذا فإنّ لباسه المادّيّ و الجسميّ الطبيعيّ بهذا الشكل و الهيئة. لانّ الدبّ قد أُهبط من ذلك العالم فإنـّه صار في هيئة وصورة كهذه التي يمتلكها.
وانظروا إلی الشاة، و تطلّعوا في عيني هذا الحيوان، فإنـّهما سيحكيان عالماً من سلامة نفسه و سريرته، لذا فإنّ أكل لحمه جائز في الإسلام. أمّا الخنزيز، الحيوان الذي يتبع الشهوات بلا عفّة و لا عصمة، فإنّ صورته الروحانيّة هكذا؛ و لانّ تناول لحمه سيسبّب انتقال تلك الملكات والاخلاق إلی الشخص الآكل، فقد حُرّم الاستفادة والاكل من لحمه في الشريعة الإسلاميّة.
و علی أساس هذا المعيار و المناط، فإنّ المحرّمات في الإسلام لايمكن عدّها منوطة فقط بالاشياء التي تسبّب ضرراً جسميّاً، فالضرر الروحيّ و انتقال الخصائص المعنويّة للمأكول إلی الآكل أعلی من الضرر الجسميّ و أبعد أثراً.
إنّ الجواد يتمتّع بالصفاء و الوفاء روحيّاً، كما أنّه نجيب في ذاته، وقد تشكّل في هذا الشكل و الهيئة؛ فانظروا إلی عينيه فإنـّكم ستجدون فيهما عالَماً من المعاني السَكِينة و الصبر والتحمّل. أمّاالحرباء و الضبّ الذي قد تكونوا شاهدتموه في الصحاري، فإنّ الحقد و الحسد و البغضاء تبدو جليّة في عينيه، وذلك العِناد الذي يُلاحظ فيه مشهودٌ في عينيه بشكل كامل.
أمّا الإنسان فمعجون بديع أُودع فيه جميع هذه الغرائز والصفات، فإذا تبعَ العقل و قهر جميع غرائزه و ملكاته و طوّعها لهذه الملكة القدسيّة، فإنـّه سيتصوّر في عالم البرزخ بصورة الإنسان الحقيقيّة.
أمّا إذا قهر عقله و نَكَبَهُ و تبع ميوله و رغباته النفسانيّة، و إذا ما اقتفي أثر غضبه و شهوته و قواه الوهميّة، فإنـّه سيُحشر علی هيئة الحيوان الذي كانت تلك الصفة فصلاً مميّزاً له. و ذلك لانّ إنسانيّة الإنسان بالعقل و القوّة الناطقة، و الفصل المميّز للإنسان تلك المَلَكة الإلـ'هيّة العاقلة، و ما لم يصل الإنسان بنفسه إلی هذا المقام، و ما لم يصل بنفسه إلی مقامه الواقعيّ، أي الإنسانيّة، فإنـّه سيقف ـ شئتَ أم أبيتَ ـ في صفّ و رتبة أوطأ من الإنسان، أي في صفّ الشياطين أو الحيوانات، و سيحرز وجوده في عالم البرزخ في الصورة البرزخيّة لذلك الشيطان أو ذلك الحيوان.
إراءة الباقر و الصادق عليهما السلام لابي بصير الصور الملكوتيّة للحجّاج
روي محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات» عن محمّد ابن الحسين، عن عبدالله بن جبلّة، عن علی بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال:
حججتُ مع أبي عبدالله عليه السلام، فلمّا كنّا في الطواف قلتُ له: جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله يَغْفِرُ اللَهُ لِهَذَا الْخَلْقِ؟
فقال: يا أبا بصير إنّ أكثر مَن تري قردة و خنازير.
قال: قلتُ له: أرينهم.
قال: فتكلّم بكلمات ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم قردةً و خنازير فهالني ذلك، ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم كما كانوا في المرّة الاُولي.
ثمّ قال: يَا أَبَا مُحَمَّد أَنْتُمْ فِي الْجَنَّةِ تُحْبَرُونَ وَ بَيْنَ أَطْبَاقِ النَّارِ تُطْلَبُونَ فَلاَ تُوجَدُونَ، وَاللَهِ لاَ يَجْتَمِعُ فِي النَّارِ مِنْكُمْ ثَلاَثَةٌ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ إثْنَانِ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ وَاحِدٌ. [4] و[5]
نقل أحد أصدقائنا ـ و كان ذا ضمير صاف ـ أنّ شخصاً من أهل المراقبة و التفكّر كان جالساً في زاوية من صحن الإمام الرضا عليه السلام غارقاً في بحر من التفكير و التأمّل، فانتابته فجأةً حالة فشاهد الصور الملكوتيّة للافراد الذين كانوا في الصحن المطهّر فرأي عجباً!
كانت صوراً مختلفة قبيحة تبعث علی الاذي، صوراً لبعض أنواع الحيوانات، و كان بعضها صوراً تحكي عن تركيب من عدد من الحيوانات؛ و كان يتفحّص الناس مليّاً فلا يجد بين هذا الجمع ملامح إنسان، اللهم إلاّ لحلاّق كان جالساً في زاوية من الصحن و قد فتح حقيبته و انشغل بحلاقة شعر رأس شخص ما، فقد شاهد أنـّه كان لوحده في صورة الإنسان و هيئته. فعجل له من بين الجمع، و كان يجلس في الصحن قريباً منه، فسلّم عليه وقال: ما الامر أيّها السيّد؟ ضحك الحلاّق و قال: لا تعجب أيـّها السيّد، خُذ المرآة وانظر إلی نفسك! فنظر إلی نفسه في المرآة، و شاهد أنّ وجهه ـ هو الآخر ـ في هيئة حيوان، فرمي بالمرآة إلی الارض في غضب.
قال الحلاّق: اذهب أيـّها السيّد و أصلح نفسك، فالمرآة لاذنب لها؟
روي فخر الشيعة في علم التفسير و الحديث: علی بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره الشريف في أوّل سورة الإسراء في مقام بيان كيفيّة المعراج، مسلسلاً و بسند صحيح عن أبيه إبراهيم[6] بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، روايةً مفصّلة في حدود عشرة صفحات تشتمل علی مطالب عالية و تعليميّة، ونأتي هنا بعدّة فقرات منها لمناسبتها لبحثنا.[7]
قال رسول الله صلّي الله عليه و آله:... ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحمٍ خبيث يأكلون الخبيث و يدعون الطيّب، فقلتُ: من هؤلاء يا جبرئيل؟
مشاهدة رسول الله الصور الملكوتيّة لافراد الاُمّة ليلة المعراج
فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من أُمّتك يامحمّد...
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ لهم مشافر كمشافر الإبل يُقرض اللحمُ من جنوبهم و يُلقي في أفواهمم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقوم تُرضخ رؤوسهم بالصّخور، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ تُفذفُ النارُ في أفواههم و تخرج من أدبارهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامي ظلماً إنـّما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ يريدُ أحدُهم أن يقوم فلا يقدرُ مِن عِظم بطنه، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فإذا هم مثل آل فرعون يُعرضون علی النار غدوّاً و عشيّاً يقولون: ربنّا متي تقوم الساعة.
قال: ثمّ مضيتُ فإذا أنا بنسوانٍ معلّقات بثديهنّ. فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء اللواتي يورّثن أموالَ أزواجهنّ أولادَ غيرِهم. [8]
و قد وردت في القرآن الكريم آيات لها دلالة واضحة علی تجسّم الاعمال في صورها الملكوتيّة، إحداها الآية العاشرة من سورة النساء.[9]
الروايات الواردة في ظهور الاعمال في صورها الملكوتيّة فيالبرزخ والقيامة
والروايات التي وردت عن رسول الله صلّي الله عليه وآله و عن الائمّة عليهم السلام و العائدة إلی ظهور حقيقة الاعمال و بروزها سواءً في عالم البرزخ أو في عالم القيامة كثيرة و جمّة، و نكتفي بذكر عدّة روايات قصيرة منها كنموذج علاوةً علی ما ذُكر سابقاً.
روي الغزاليّ في «إحياء العلوم» عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
اِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَ'مَةِ ـ الحديث. [10]
اَلْجَنَّةُ قِيعَانٌ وَ إنَّ غِرَاسَهَا لاَ إلَـ'هَ إلاَّ اللَهُ.
و يروي الغزاليّ أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
اَلْغَضَبُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ. [11]
و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَكَأَنَمَّا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَجَهَنَّمَ[12] و ظاهر العبارة أنـّها رواية. و يقول في التعليقة: حديثٌ متّفقٌ عليه، عن أُمّسلمة عن رسول الله صلّي الله عليه و آله، لكنّ المصنّف لم يصرّح بكونه حديثاً كتاب «المُغني عن حمل الاسفار في الاسفار في تخريج ما في الإحياء من الاخبار» للحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقيّ.
و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا! قِيلَ: وَ مَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجالِسُ الذِّكْرِ.[13]
و روي كذلك عن رسول الله صلّي الله عليه و آله أنـّه قال لـ (عبَادَة بن الصَّامِت) حين أرسله لجمع الصدّقات:
اتَّقِ اللَهَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لاَ تِجِيء يَوْمَ الْقِيَ'مَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ علی' رَقَبَتِكَ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ لَهَا تُؤاجٌ!
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ؟ أَهَكَذَا يَكُونُ؟
قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَهُ.
قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَعْمَلُ علی' شَيءٍ أَبَداً. [14]
و كان رسول الله يريد إفهام عبادة أنّ أحداً إذا ما ظلم الناس في أخذ الصّدقات فتقاضي منهم أكثر من الحدّ المعيّن، أو إذا أخذ الصدقة ممّن ليس عليه صدقة، فإنّ عمله سيكون يوم القيامة علی هيئة بعير أو بقرة أو شاة يحملها علی رقبته رغاء أو خوار و تؤاج [15] علی التوالي.
و كذلك يروي عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
رِيحُ الْوَلَدِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ.[16]
نفقة الملائكة في أبنية الجنّة تسبيح المؤمن و تكبيره و تحميده و تهليله
و أكثر من جميع هذه الروايات وضوحاً و جلاءً، رواية يرويها علیبن إبراهيم القمّيّ في مقدّمة تفسيره عن أبيه، عن حمّاد، عن الصادق عليه السلام:
قال النبيّ صلّي الله عليه و آله:
لَمَا أُسْرِيَ بِي إلَي' السَّمَاء ِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا قِيعَاناً يَقَقَاً[17]، وَ رَأَيْتُ فِيهَا مَلاَئِكَةً يَبْنُونَ لِبْنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَ لِبْنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَ رُبَّمَا أَمْسَكُوا. فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ رُبَّمَا بَنَيْتُمْ وَ رُبَّمَا أَمْسَكْتُمْ؟
فَقَالُوا: حَتَّي' تَجِيئَنَا النَّفَقَةُ.
قُلْتُ: وَ مَا نَفَقَتُكُمْ؟ قَالُوا: قَوْلُ الْمُؤمِنِ فِي الدُّنْيَا سُبْحَانَ اللَهِ وَالْحَمْدُ لِلِهِ وَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وَاللَهُ أَكْبَرُ؛ فَإذَا قَالَ بَنَيْنَا وَ إذَا أَمْسَكَ أَمْسَكْنَا.[18]
كما أنّ اغتياب المؤمن كأكل لحمه ميتاً. [19]
وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ.[20]
المؤمن هو الكلمة الطيّبة و الشجرة التي تؤتي أُكُلهاكلّ حين بإذن ربّها
و لنأتي الآن إلی تفسير الآية التي عنونّاها في مطلع البحث:
اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ.
فانظر كيف يضرب الله مثل الكلمة الطيّبة للروح المنزّهة الطاهرة ولروح المؤمن!
إنّ جميع الموجودات هي كلمة الله، غاية الامر أنـّها تختلف وتتباين باختلاف سعة أو ضيق ماهيّة وجودها.
به نزد آنكه جانش در تجلّي است همه عالم كتاب حقّ تعإلی است
عَرَض اِعراب و جوهر چون حروفست مراتب همچو آيات وقوفست
از و هر عالمي چو سورة خاص يكي زان فاتحه ديگر چو اخلاص[21]
فالموجود الواحد هو كلمة حسنة، كلمة طيّبة، و كلمة رفيعة، وهذه الكلمات هي أسماء و صفات ذي الجلال التي تجلّت في أفراد الإنسان بحسب سعتهم و ظرفيّتهم المختلفة، فصار كلُّ فرد من أفراد الإنسان مظهر اسم أو أسماء منه. و مثل المؤمن الطاهر المنزّة المطهّر الطيّب الذي طوي مرحلة عالَم الإخلاص، و وضع قدمه في عالم الخلوص فصار من المخلَصين، كمثل الشجرة الطيّبة أصلُها و جذورها راسخةٌ ضاربةٌ في الارض، إلاّ أنّ فرعها و أفنانها مترامية في عنان السماء.
تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
فالمؤمن الذي وصل درجة الإيقان، و الذي تجلّت فيه حال الطمأنينة و السَكِينة، أصله ثابت و هو الارتباط بربّه، ذلك لانّ المؤمن له عهد مع الله، و عهده هو ارتباطه، و هو أصالته وجذوره.
أمّا فروعه التي طبّقت آفاق المُلك و الملكوت و التي تؤتي ثمارها كلّ حين، فتفيض من عالم القدس علی هذا العالم، و تصبح واسطة للخير والرحمة و البركة، فتُروي فواكُهُها المعطّرة اللذيذة جميع ذوات الإمكان المستقّرين في درجات الكثرة و تُشبعهم وتُبهجهم.
إنّ المؤمن سيطوي بقدمٍ راسخة جميع المنازل في جميع المراحل العبور من هذا العالم، عند سكرات الموت، و عند سؤال منكر و نكير ومبشّر و بشير، و خلال إقامته في عالم البرزخ، وفي الحشر و مواطن القيامة من العَرْض و السؤال و الحساب و الميزان و الصراط و الجزاء وتطاير الكتب و غيرها؛ و سيستقرّ في طمأنينة فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. [22] وما ذلك إلاّ لارتباطه بالله سبحانه، و لانّ ينبوع قلبه يرتوي من مركز ينبوع العلوم والاسرار الإلـ'هيّة، فيهب جميع الموجودات الخير والرحمة والبركة من ينابيع الحكمة التي يجريها الباري المنّان من قلبه علی لسانه.
وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
و ليس المؤمن شجرةً في الحقيقة، بل إنّ الله سبحانه يمثّله بهذه الشجرة الثابتة الاصيلة المحمّلة بالثمار و الطافحة بالفائدة، وهذا المثال من أجل أن يُدرك الناس مقام عظمة المؤمن الذي حظي بهذا الفوز العظيم إثر الطاعة للاوامر الإلـ'هيّة.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ.
أمّا مثل الإنسان الكافر المنكر المُعاند، الإنسان الظالم المتعدّي المتجاوز، الذي لم يُحرم لوحده من وجوده فقط، بل أوجب كذلك محروميّة أبناء نوعه من الماء المعين لنبع الحقيقة الزلال؛ فهو كالشجرة الخبيثة المنكرة التي اجتثّت و اقتُلعت من الارض، فجذورها ملقاة علی الارض لا ارتباط لها بأصلها ومبدئها، و لا مسند لها تستند عليه.
إنّ الرجل الكافر الظالم الذي لا ارتباط له بعالم السرّ والخفيّات كمثل هذه الشجرة اليابسة بلا فائدة و بلا ارتباط بمصدر الغذاء و الارتواء.
و هؤلاء هم الافراد الذين لم يطهّروا بواطنهم، و الذين تتلوّن أعماقهم بأنواع الرذائل و الصفات القبيحة الذميمة، و هم المتردّدون المتلوّنون في الاُمور، المتردّدون في شكّهم و ريبهم بشأن ذات القيّوم، والمتكبّرون المغرورون المُعجبون بأنفسهم مقابل أبناء نوعهم، الشاكّون في الحقائق و الاُمور الاصيلة، والمعتمدون علی الامور الواهية التي لاأساس لها.
و هؤلاء مهما كان لهم في دنياهم و أُمورهم الاجتماعيّة من شخصيّة و اعتبار و جاه و شوكة و نفوذ كلمة و قدرة، إلاّ أنـّهم في عالم الواقع و في ميزان تقييم الحقائق و الواقعيّات تافهون فارغون لا وزن لهم و لا فكر ولاأصالة.
أتْبَاعُ كُلِ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَأوا إلَي' رُكْنٍ وَثِيقٍ. [23]
لانـّهم فصموا حبل ارتباطهم بربّهم، فلم يلجأوا إلی ركنٍ مكين يعتمدون عليه، و لم تشرق قلوبهم بنور العلم، فهم ـ لذلك ـ سيميلون مع كلّ ريح حيث مالت.
يُثَبّـِتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْخِرَةِ.
إنّ الله جلّت عظمته يثبّت بالقول الثابت أُولئك الذين آمنوا، أي الذين وجدوا حبل ارتباطهم بربّهم، و الذين صار لهم نزوع إلی تلك الذات المقدّسة؛ يثبّتهم في الحياة الدنيا و في العليا، أي دار الجزاء.
و القول الثابت هو الكلمة الطيّبة، و هو الارتباط بالربّ الودود. فالله سبحانه يثبّت هؤلاء بالقول الثابت في جميع العوالم؛ في الدنيا، و في سكرات الموت، و في النشئات التي تلي ذلك؛ كي يطووا هذا الطريق بقدم ثابتة و إرادة راسخة و قلب قويّ و فكرٍ مُضاء.
روح المؤمن هي الكلم الطيِّب، و العمل الصالح هوالذي يرفعه
إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ.[24]
و الكلم الطيّب هو الروح الطاهرة المنزّهة ترتفع إلی الخالق سبحانه، و العمل الصالح هو الذي يرفعها إلی حيث مقام العزّة، إلی حيث العزّة المطلقة؛ إذ يقول قبل هذه الجملة:
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.
علی طالب العزّة أن يعلم أنّ جميع درجات العزّة و مراتبها منحصرة اختصاصاً بالربّ سبحانه، إنّ الكلمة الطيّبة في الآية مورد البحث، و التي كان لها أصل ثابت و فاكهة و أُكل دائم، هي الكلم الطيّب الذي يرتفع إلی الله سبحانه فيَصل إلی مقام العزّة المطلقة، كما ورد في المناجاة الشعبانيّة:
إلَـ'هِي وَأَلْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ فَأَكُونَ لَكَ عَارِفَاً وَ عَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفاً.[25]
العمل الصالح كالبنزين الذي يسبّب حركة طائرة الروح إلی فضاء عالم القدس، العالم الذي فيه حياة بلا موت، و عزّة بلا ذلّ، و غنيً بلا فقر.
و إذن فالقول الثابت الذي ثبّت الربّ العلی الاعلی المؤمنين به هو النزوع و الارتباط الذي أقرّه بينهم و بين ذاته المقدّسة، وهو موجب للعمل الصالح، والعمل الصالح بدوره موجب لحركة الكلمة الطيّبة و روح المؤمن الطاهرة إلی عالم القدس، و هذه الحركة هي حركة الإنسان في صورة إنسان واقعيّ؛ والله يعلم كم يبلغ لذّة و بهجة و نور و سرور و حبور،هذا الإنسان الذي يذهب في صورته الإنسانيّة تلك إلی مضيّفه الباري تعإلی شأنه.
كما أنّ من آثارها المعيّة و الرفقة مع الارواح المقدّسة لاولياء الله والابرار الاخيار و الصالحين و الشهداء والانبياء، وستكون حقيقتها التحقّق بمقام:
إنّ الله لايهدي الظالمين في نهجهم إلی عالم النور و السرور
لاَ يَسَعُنِي أَرْضِي وَ لاَ سَمَآئِي بَلْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤمِن بِي. [26]
وَيُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ[/][/]
من كتاب معرفة المعاد
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ * تُؤْتِي´ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رِبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَ فِي الاْخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ.[1]
لقد ذُكر سابقاً أنّ الإنسان حين يرحل عن الدنيا فإنّ عالمه ونشأته سيَتبدّلان، فهذا العالم عالمٌ تمتزج فيه السعادةُ و الشقاء، والحقّ والباطل، و الصّدق و الكذب، و الخلوص و التلوّث؛ أمّا ذلك العالم فعالمُ الصدق المحض و الحقيقة و الواقعيّة المحضة.
و إذا ما حصل هناك أحياناً تدليس و تلبيسٌ في هذا العالم، فإنـّه لن يكون ممكناً هناك، إذ ستظهر حقيقة الاشياء هناك كما هي، فلايمكن
لاحد أن يقدّم نفسه أو يُجلّيها بغير ما هي عليه.
إنّ ذوات و ملكات الإنسان و أخلاقه و أعماله التي سار عليها في الدنيا ستتجلّي و تتمثّل هناك في صورتها و هيئتها الواقعيّة، فلا يكون هناك اختلافٌ بين الظاهر و الباطن، لكأنّ البواطن و الخفايا صارت جميعها ظاهرةً لا باطنَ لها، أو كأنّها بواطن لا ظاهر لها، أي أنـّها حقيقة واحدة لاغير.
كما أنّ سبيل سعادة أيّ إنسان أو شقائه في هذه الدنيا إلی حين موته ليس مشخّصاً أو محدّداً، ولكن بمجرّد موت الإنسان فإنّ سبيله و طريقه سيصبح مباشراً إمّا إلی الجنّة أو إلی النار، إمّا إلی السعادة أو إلی الشقاء.
تجلّي الإنسان في البرزخ في صورة ملكوتيّة
إنّ الموجودات التي سيشهدها الإنسان في ذلك العالم ستتجلّي له في صورها الواقعيّة، و هكذا فإنّ الاعمال التي قام بها الإنسان ستتجلّي له في صورها الواقعيّة الملكوتيّة البرزخيّة، كما أنّ الملكات التي اكتسبها في الدنيا و الاخلاق التي تحلّي بها ستكون مشهودةً له هناك في صورة واقعيّة ملكوتيّة. يُضاف إلی ذلك أنّ أفراد الإنسان أنفسهم سيتمثّلون و يتشكّلون في صورهم الواقعيّة، و سيخرجون في قوالبهم الصوريّة المثاليّة.
و قد علمنا من الروايات التي ذُكرت فيالعديد من المجالس الاخيرة في شأن أعمال الإنسان التي تتجسّم له في عالم البرزخ، بما فيها أعماله الحسنة أو الخبيثة؛ إنّ صورة جميلة ذات قوام فاتن و حديث جذّاب ستتجسّم له ـ مثلاً ـ فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أرَ من قبلُ صورة أجمل منك و لا أطيب رائحةً ولاأحسن لباساً؟
فتجيبه: أنا عملك الصالح الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم الجزاء!
و قد تتجسّم له صورة قبيحة كريهة و مُنفّرة تبعث علی الاشمئزاز والتقزّز و الضجر بسبب قبحها و رائحتها الكريهة، فيقول لها الإنسان: من أنت؟ فإنـّي لم أشاهد من قبلُ صورةً بهذا القبح و الكراهة و النفور، و لم أشمّ من قبل كمثل رائحة عفونتك؟
فتجيبه: أنا عملك القبيح الكريه الذي قمتَ به في الدنيا، فأنا معك إلی يوم القيامة!
ارتباط الملكوت مع أشكال الموجودات و صورها
إنّ الإنسان يمكنه في هذه الدنيا أن يُدرك أنّ الاعمال التي تصدر منه لها و جهان: الاوّل الوجه الظاهر، و هو متن العمل وجسده و هيكله، والثاني: الوجه الباطن، و هو روح العمل؛ أي الاختيار و الخلوص و النيّة الطاهرة و التقرّب إلی الربّ المتعال، أو ـ لا سامح الله ـ السُمعة و الرياء وحبّ الظهور و التظاهر الخاطي و التعدّي؛ تلك النيّات التي يقوم الإنسان بعمله علی أساسها.
فيمكن للإنسان أن يصلّي في هذه الدنيا، إلاّ أنـّه قد يصلّي لربّه، كما أنـّه قد يصلّي حبّاً للظهور، و يمكن أن يقوم بذلك بنيّتين مختلفتين؛ لذا فإنّ روح الصلاة ستكون مزدوجة بينما يبقي هيكل الصلاة، أي العمل الظاهريّ واحداً.
علی أنـّه ليس لاحد غير عالِم الغيبِ عِلْمٌ بروح الاعمال وباطنها، فقد يمكن أن يصلّي الإنسان فلا يُدرك رفيقه الذي يقف إلی جواره هل أدّي هذه الصّلاة خالصةً لوجه الله الكريم، أو أقامها لباعثٍ وداعٍ آخر.
و قد يصوم أو يزكّي أو يُقيم جسراً أو يبني مسجداً أو ينشر كتاباً، تلك الاعمال التي تستلفت الانظار بظاهرها، إلاّ أنّ أحداً لايعلم بباطنها، فقد يكون فَعَلَ هذه الاعمال من أجل رضا الله سبحانه، و قد يكون أنجزها حبّاً للجاه و الشهرة.
لقد كان ظاهر العمل جيّداً و جميلاً، إلاّ أنّ له باطنين مختلفين ومتعارضين، فإن كان قد فعله لله تعإلی و في سبيله، فإنـّه سيكون عملاً مؤدّياً إلی التقرّب و ذا باطن حسن و محبوب، و سيجعل ذلك الباطن الحَسنُ الممدوحُ روحَه خفيفةً مُبتهجةً، و سيبعث الراحة في نفسه، وسيرفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة عنه، فيوصله شيئاً فشيئاً إلی حريم أمن الله وأمانه.
أمّا إذا كان قد قام به لغير وجه الله تعالي، فإنّ باطن هذا العمل سيكون فاسداً و مهلكاً؛ و بدلاً من أن يسوقه إلی الجنّة فإنـّه سيدنيه إلی جهنّم، لانـّه رياء و الرياء حرام، الرياء عبادة أصنام وعبادة إنسان و شرك بالله، و سيبعث هذا العمل الخمولَ في روحه و الملل و التعب في نفسه، وسيحدّ من قدرته علی التحليق في فضاء عالم القُدس، و يُبعده شيئاً فشيئاً عن حريم القُرب، ثمّ يجرّه فيالنتيجة إلی مَظهر عالم البُعد: (جهنّم).
و بنفس الدرجة التي يحسّ بها الإنسان في هذه الدنيا بالملل و الوهن و الضجر من العمل القبيح، و بالبهجة و اللذة من العمل الحسن المقبول؛ فكذلك الامر في عالم البرزخ، حيث يزداد ظهور المخفيّات و انكشاف السرائر، و حيث يسقط قالب المادّة فتظهر الصور البرزخيّة للاعمال التي قام بها الإنسان تبعاً إلی روحها الملكوتيّة، و حيث يتجلّي للإنسان كلّ عمل بما يتناسب وذلك العالم؛ فسيكون أثر بواطن الاعمال أكثر بالآف المرّات، وسيجد الإنسان هذه الآثار القويّة و هي تُمسك بتلابيبه. و لذلك فإنـّنا إذا ما أغضينا عن ظاهر الذنب و هيكل العمل، فإنّ باطن وروح الكذب و الزنا و الغشّ في المعاملة و الغضب و الشهوة في غير موضعها، والبخل و الحسد و الحقد و العبوديّة لغير الحقّ ستُعلن وجودها بحقائقها وواقعيّاتها. كما أنّ الاعمال الصالحة من الصلاة و الزكاة و إعانةالفقراء والتواضع للحقّ والعزّة و الشرف و الحياء و العصمة و العبوديّة للمعبود المطلق ستكون ـ هي الاُخري ـ موجودة بواقعياتها و حقائقها.
لكأنّ العالم يتبدّل و هيكله يتقوّض، و كأنّ تلك الاعمدة والاسس التي شُيّدَ عليها ذلك العالم أعمدة عجيبة غير الاعمدة والاسس التي شُيّد عليها هذا العالم، و كأنّ فضاء ذلك العالم فضاء آخر غير هذا الفضاء.
إنّ الافراد الذين يعيشون في هذه الدنيا هم جميعاً في هيئة إنسانيّة، إلاّ أنّ أخلاقهم تتباين و تختلف مع بعضها، و قد أدّي ذلك الاختلافُ في الاخلاق و الملكات، و التفاوتُ في الغرائز إلی اختلاف في الاشكال والصور. و هذه المسألة من أدقّ مسائل العلوم الإلهيّة و كيفيّة نزول الوحدة في عالم الكثرة. بحيث أنـّنا لو فرضنا أنّ العلوم المادّيّة ستترقّي بحيث يمكنها كشف علاقات المادّة مع المعني، فإنـّه سيُمكن في تلك الحال، من ملاحظة الاشكال المختلفة للانبياء و الائمّة و أولياء الله، الوقوف علی حقيقة مقام بواطنهم، و سيمكن من الاشكال و السيماء و الملامح المختلفة لكلّ فرد من الافراد، الوقوفُ علی غرائزه و ملكاته وأخلاقه. حيث أنّ هذا المعني ثابت للانبياء و الائمّة و أولياء الله الذين يتعرّفون علی أخلاقيّات وملكات أيّ فرد من ملاحظته ومشاهدته مرّةً واحدة، و يمكن القول حقّاً إنّ هذه معجزة للقرآن الكريم حيث يقول:
وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ و وَالْمُؤمِنُونَ.[2]
كما أنّ اختلاف أشكال الحيوانات و صورها مبنيّ ـ هو الآخر ـ علی اختلاف غرائزها و ملكاتها و صفاتها، فأحدها علی هيئة القطّة، و الآخر بشكل الكلب، و آخر بصورة الثعلب، و آخر بشكل الذئب، و آخر بشكل الاسد، و آخر علی هيئة الفيل، وهكذا سائر أصناف الحيوانات من الوحوش و الزواحف والحشرات و الطيور في السماء و الاسماك في البحار، حتّي الذبابة و البعوضة و أمثالها.
عالم الطبع نزول لعالم الملكوت
و هذا الاختلاف ناشي من اختلاف كميّة و كيفيّة غرائزها وصفاتها، فقد أدّي اختلاف و كيفيّة نظامها و هيكلها الروحيّ والملكوتيّ إلی اختلاف كيفيّة صورها و أشكالها و اختلاف الكميّة و الكيفيّة في بدنها المادّيّ و جسمها الطبيعيّ، بحيث تشكّل البدن الطبيعيّ لكلّ حيوان؛ والذي له نوع من الاتّحاد مع نفس ذلك الحيوان؛ بالشكل النازل لنفس ذلك الحيوان.
فإذا ما ارتقينا بسلّم المعرفة من بدن حيوانٍ ما، فإنـّنا سنصل إلی نفسه الملكوتيّة فنلاحظ و نشاهد تلك النفس كما هو حقّه، كما أنّنا لو أُرينا النفس الملكوتيّة لحيوانٍ ما لم يسبق لنا مشاهدة شكله الظاهريّ وبدنه الجسمانيّ والطبيعيّ، لاستطعنا ـ عند وجود قوّة المعرفة ـ أن نرسم ونصف الشكل الظاهريّ لذلك الحيوان كما هو حقّه.
إنّ القطّة التي تلاحظونها بهذا الشكل و الهيئة، صارت كذلك بسبب امتلاكها صورة ملكوتيّة خاصّة. بحيث أنـّنا لو أردنا أن نلبّس تلك الصورة الملكوتيّة بلباس المادّة لما كانت شيئاً غير شكل القطّة و هيئتها هذه. كما أنّ الصورة الملكوتيّة للكلب هي الافتراس و الغضب والوفاء، مضافاً إليها احترام الغنيّ و عضّ الفقير؛ لذا فإنّ لباسه المادّيّ و الجسميّ الطبيعيّ بهذا الشكل و الهيئة. لانّ الدبّ قد أُهبط من ذلك العالم فإنـّه صار في هيئة وصورة كهذه التي يمتلكها.
وانظروا إلی الشاة، و تطلّعوا في عيني هذا الحيوان، فإنـّهما سيحكيان عالماً من سلامة نفسه و سريرته، لذا فإنّ أكل لحمه جائز في الإسلام. أمّا الخنزيز، الحيوان الذي يتبع الشهوات بلا عفّة و لا عصمة، فإنّ صورته الروحانيّة هكذا؛ و لانّ تناول لحمه سيسبّب انتقال تلك الملكات والاخلاق إلی الشخص الآكل، فقد حُرّم الاستفادة والاكل من لحمه في الشريعة الإسلاميّة.
و علی أساس هذا المعيار و المناط، فإنّ المحرّمات في الإسلام لايمكن عدّها منوطة فقط بالاشياء التي تسبّب ضرراً جسميّاً، فالضرر الروحيّ و انتقال الخصائص المعنويّة للمأكول إلی الآكل أعلی من الضرر الجسميّ و أبعد أثراً.
إنّ الجواد يتمتّع بالصفاء و الوفاء روحيّاً، كما أنّه نجيب في ذاته، وقد تشكّل في هذا الشكل و الهيئة؛ فانظروا إلی عينيه فإنـّكم ستجدون فيهما عالَماً من المعاني السَكِينة و الصبر والتحمّل. أمّاالحرباء و الضبّ الذي قد تكونوا شاهدتموه في الصحاري، فإنّ الحقد و الحسد و البغضاء تبدو جليّة في عينيه، وذلك العِناد الذي يُلاحظ فيه مشهودٌ في عينيه بشكل كامل.
أمّا الإنسان فمعجون بديع أُودع فيه جميع هذه الغرائز والصفات، فإذا تبعَ العقل و قهر جميع غرائزه و ملكاته و طوّعها لهذه الملكة القدسيّة، فإنـّه سيتصوّر في عالم البرزخ بصورة الإنسان الحقيقيّة.
أمّا إذا قهر عقله و نَكَبَهُ و تبع ميوله و رغباته النفسانيّة، و إذا ما اقتفي أثر غضبه و شهوته و قواه الوهميّة، فإنـّه سيُحشر علی هيئة الحيوان الذي كانت تلك الصفة فصلاً مميّزاً له. و ذلك لانّ إنسانيّة الإنسان بالعقل و القوّة الناطقة، و الفصل المميّز للإنسان تلك المَلَكة الإلـ'هيّة العاقلة، و ما لم يصل الإنسان بنفسه إلی هذا المقام، و ما لم يصل بنفسه إلی مقامه الواقعيّ، أي الإنسانيّة، فإنـّه سيقف ـ شئتَ أم أبيتَ ـ في صفّ و رتبة أوطأ من الإنسان، أي في صفّ الشياطين أو الحيوانات، و سيحرز وجوده في عالم البرزخ في الصورة البرزخيّة لذلك الشيطان أو ذلك الحيوان.
إراءة الباقر و الصادق عليهما السلام لابي بصير الصور الملكوتيّة للحجّاج
روي محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات» عن محمّد ابن الحسين، عن عبدالله بن جبلّة، عن علی بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال:
حججتُ مع أبي عبدالله عليه السلام، فلمّا كنّا في الطواف قلتُ له: جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله يَغْفِرُ اللَهُ لِهَذَا الْخَلْقِ؟
فقال: يا أبا بصير إنّ أكثر مَن تري قردة و خنازير.
قال: قلتُ له: أرينهم.
قال: فتكلّم بكلمات ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم قردةً و خنازير فهالني ذلك، ثمّ أمرّ يده علی بصري فرأيتهم كما كانوا في المرّة الاُولي.
ثمّ قال: يَا أَبَا مُحَمَّد أَنْتُمْ فِي الْجَنَّةِ تُحْبَرُونَ وَ بَيْنَ أَطْبَاقِ النَّارِ تُطْلَبُونَ فَلاَ تُوجَدُونَ، وَاللَهِ لاَ يَجْتَمِعُ فِي النَّارِ مِنْكُمْ ثَلاَثَةٌ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ إثْنَانِ لاَ وَاللَهِ وَ لاَ وَاحِدٌ. [4] و[5]
نقل أحد أصدقائنا ـ و كان ذا ضمير صاف ـ أنّ شخصاً من أهل المراقبة و التفكّر كان جالساً في زاوية من صحن الإمام الرضا عليه السلام غارقاً في بحر من التفكير و التأمّل، فانتابته فجأةً حالة فشاهد الصور الملكوتيّة للافراد الذين كانوا في الصحن المطهّر فرأي عجباً!
كانت صوراً مختلفة قبيحة تبعث علی الاذي، صوراً لبعض أنواع الحيوانات، و كان بعضها صوراً تحكي عن تركيب من عدد من الحيوانات؛ و كان يتفحّص الناس مليّاً فلا يجد بين هذا الجمع ملامح إنسان، اللهم إلاّ لحلاّق كان جالساً في زاوية من الصحن و قد فتح حقيبته و انشغل بحلاقة شعر رأس شخص ما، فقد شاهد أنـّه كان لوحده في صورة الإنسان و هيئته. فعجل له من بين الجمع، و كان يجلس في الصحن قريباً منه، فسلّم عليه وقال: ما الامر أيّها السيّد؟ ضحك الحلاّق و قال: لا تعجب أيـّها السيّد، خُذ المرآة وانظر إلی نفسك! فنظر إلی نفسه في المرآة، و شاهد أنّ وجهه ـ هو الآخر ـ في هيئة حيوان، فرمي بالمرآة إلی الارض في غضب.
قال الحلاّق: اذهب أيـّها السيّد و أصلح نفسك، فالمرآة لاذنب لها؟
روي فخر الشيعة في علم التفسير و الحديث: علی بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره الشريف في أوّل سورة الإسراء في مقام بيان كيفيّة المعراج، مسلسلاً و بسند صحيح عن أبيه إبراهيم[6] بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، روايةً مفصّلة في حدود عشرة صفحات تشتمل علی مطالب عالية و تعليميّة، ونأتي هنا بعدّة فقرات منها لمناسبتها لبحثنا.[7]
قال رسول الله صلّي الله عليه و آله:... ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحمٍ خبيث يأكلون الخبيث و يدعون الطيّب، فقلتُ: من هؤلاء يا جبرئيل؟
مشاهدة رسول الله الصور الملكوتيّة لافراد الاُمّة ليلة المعراج
فقال: هؤلاء الذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من أُمّتك يامحمّد...
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقومٍ لهم مشافر كمشافر الإبل يُقرض اللحمُ من جنوبهم و يُلقي في أفواهمم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بقوم تُرضخ رؤوسهم بالصّخور، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ تُفذفُ النارُ في أفواههم و تخرج من أدبارهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامي ظلماً إنـّما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً.
ثمّ مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ يريدُ أحدُهم أن يقوم فلا يقدرُ مِن عِظم بطنه، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فإذا هم مثل آل فرعون يُعرضون علی النار غدوّاً و عشيّاً يقولون: ربنّا متي تقوم الساعة.
قال: ثمّ مضيتُ فإذا أنا بنسوانٍ معلّقات بثديهنّ. فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء اللواتي يورّثن أموالَ أزواجهنّ أولادَ غيرِهم. [8]
و قد وردت في القرآن الكريم آيات لها دلالة واضحة علی تجسّم الاعمال في صورها الملكوتيّة، إحداها الآية العاشرة من سورة النساء.[9]
الروايات الواردة في ظهور الاعمال في صورها الملكوتيّة فيالبرزخ والقيامة
والروايات التي وردت عن رسول الله صلّي الله عليه وآله و عن الائمّة عليهم السلام و العائدة إلی ظهور حقيقة الاعمال و بروزها سواءً في عالم البرزخ أو في عالم القيامة كثيرة و جمّة، و نكتفي بذكر عدّة روايات قصيرة منها كنموذج علاوةً علی ما ذُكر سابقاً.
روي الغزاليّ في «إحياء العلوم» عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
اِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَ'مَةِ ـ الحديث. [10]
اَلْجَنَّةُ قِيعَانٌ وَ إنَّ غِرَاسَهَا لاَ إلَـ'هَ إلاَّ اللَهُ.
و يروي الغزاليّ أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
اَلْغَضَبُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ. [11]
و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
مَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَكَأَنَمَّا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَجَهَنَّمَ[12] و ظاهر العبارة أنـّها رواية. و يقول في التعليقة: حديثٌ متّفقٌ عليه، عن أُمّسلمة عن رسول الله صلّي الله عليه و آله، لكنّ المصنّف لم يصرّح بكونه حديثاً كتاب «المُغني عن حمل الاسفار في الاسفار في تخريج ما في الإحياء من الاخبار» للحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقيّ.
و يروي أيضاً عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا! قِيلَ: وَ مَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجالِسُ الذِّكْرِ.[13]
و روي كذلك عن رسول الله صلّي الله عليه و آله أنـّه قال لـ (عبَادَة بن الصَّامِت) حين أرسله لجمع الصدّقات:
اتَّقِ اللَهَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لاَ تِجِيء يَوْمَ الْقِيَ'مَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ علی' رَقَبَتِكَ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٍ لَهَا تُؤاجٌ!
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ؟ أَهَكَذَا يَكُونُ؟
قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَهُ.
قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَعْمَلُ علی' شَيءٍ أَبَداً. [14]
و كان رسول الله يريد إفهام عبادة أنّ أحداً إذا ما ظلم الناس في أخذ الصّدقات فتقاضي منهم أكثر من الحدّ المعيّن، أو إذا أخذ الصدقة ممّن ليس عليه صدقة، فإنّ عمله سيكون يوم القيامة علی هيئة بعير أو بقرة أو شاة يحملها علی رقبته رغاء أو خوار و تؤاج [15] علی التوالي.
و كذلك يروي عن رسول الله صلّي الله عليه و آله:
رِيحُ الْوَلَدِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ.[16]
نفقة الملائكة في أبنية الجنّة تسبيح المؤمن و تكبيره و تحميده و تهليله
و أكثر من جميع هذه الروايات وضوحاً و جلاءً، رواية يرويها علیبن إبراهيم القمّيّ في مقدّمة تفسيره عن أبيه، عن حمّاد، عن الصادق عليه السلام:
قال النبيّ صلّي الله عليه و آله:
لَمَا أُسْرِيَ بِي إلَي' السَّمَاء ِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا قِيعَاناً يَقَقَاً[17]، وَ رَأَيْتُ فِيهَا مَلاَئِكَةً يَبْنُونَ لِبْنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَ لِبْنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَ رُبَّمَا أَمْسَكُوا. فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ رُبَّمَا بَنَيْتُمْ وَ رُبَّمَا أَمْسَكْتُمْ؟
فَقَالُوا: حَتَّي' تَجِيئَنَا النَّفَقَةُ.
قُلْتُ: وَ مَا نَفَقَتُكُمْ؟ قَالُوا: قَوْلُ الْمُؤمِنِ فِي الدُّنْيَا سُبْحَانَ اللَهِ وَالْحَمْدُ لِلِهِ وَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَهُ وَاللَهُ أَكْبَرُ؛ فَإذَا قَالَ بَنَيْنَا وَ إذَا أَمْسَكَ أَمْسَكْنَا.[18]
كما أنّ اغتياب المؤمن كأكل لحمه ميتاً. [19]
وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ.[20]
المؤمن هو الكلمة الطيّبة و الشجرة التي تؤتي أُكُلهاكلّ حين بإذن ربّها
و لنأتي الآن إلی تفسير الآية التي عنونّاها في مطلع البحث:
اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ.
فانظر كيف يضرب الله مثل الكلمة الطيّبة للروح المنزّهة الطاهرة ولروح المؤمن!
إنّ جميع الموجودات هي كلمة الله، غاية الامر أنـّها تختلف وتتباين باختلاف سعة أو ضيق ماهيّة وجودها.
به نزد آنكه جانش در تجلّي است همه عالم كتاب حقّ تعإلی است
عَرَض اِعراب و جوهر چون حروفست مراتب همچو آيات وقوفست
از و هر عالمي چو سورة خاص يكي زان فاتحه ديگر چو اخلاص[21]
فالموجود الواحد هو كلمة حسنة، كلمة طيّبة، و كلمة رفيعة، وهذه الكلمات هي أسماء و صفات ذي الجلال التي تجلّت في أفراد الإنسان بحسب سعتهم و ظرفيّتهم المختلفة، فصار كلُّ فرد من أفراد الإنسان مظهر اسم أو أسماء منه. و مثل المؤمن الطاهر المنزّة المطهّر الطيّب الذي طوي مرحلة عالَم الإخلاص، و وضع قدمه في عالم الخلوص فصار من المخلَصين، كمثل الشجرة الطيّبة أصلُها و جذورها راسخةٌ ضاربةٌ في الارض، إلاّ أنّ فرعها و أفنانها مترامية في عنان السماء.
تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.
فالمؤمن الذي وصل درجة الإيقان، و الذي تجلّت فيه حال الطمأنينة و السَكِينة، أصله ثابت و هو الارتباط بربّه، ذلك لانّ المؤمن له عهد مع الله، و عهده هو ارتباطه، و هو أصالته وجذوره.
أمّا فروعه التي طبّقت آفاق المُلك و الملكوت و التي تؤتي ثمارها كلّ حين، فتفيض من عالم القدس علی هذا العالم، و تصبح واسطة للخير والرحمة و البركة، فتُروي فواكُهُها المعطّرة اللذيذة جميع ذوات الإمكان المستقّرين في درجات الكثرة و تُشبعهم وتُبهجهم.
إنّ المؤمن سيطوي بقدمٍ راسخة جميع المنازل في جميع المراحل العبور من هذا العالم، عند سكرات الموت، و عند سؤال منكر و نكير ومبشّر و بشير، و خلال إقامته في عالم البرزخ، وفي الحشر و مواطن القيامة من العَرْض و السؤال و الحساب و الميزان و الصراط و الجزاء وتطاير الكتب و غيرها؛ و سيستقرّ في طمأنينة فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. [22] وما ذلك إلاّ لارتباطه بالله سبحانه، و لانّ ينبوع قلبه يرتوي من مركز ينبوع العلوم والاسرار الإلـ'هيّة، فيهب جميع الموجودات الخير والرحمة والبركة من ينابيع الحكمة التي يجريها الباري المنّان من قلبه علی لسانه.
وَيَضْرِبُ اللَهُ الاْمْثَالَ لَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
و ليس المؤمن شجرةً في الحقيقة، بل إنّ الله سبحانه يمثّله بهذه الشجرة الثابتة الاصيلة المحمّلة بالثمار و الطافحة بالفائدة، وهذا المثال من أجل أن يُدرك الناس مقام عظمة المؤمن الذي حظي بهذا الفوز العظيم إثر الطاعة للاوامر الإلـ'هيّة.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ.
أمّا مثل الإنسان الكافر المنكر المُعاند، الإنسان الظالم المتعدّي المتجاوز، الذي لم يُحرم لوحده من وجوده فقط، بل أوجب كذلك محروميّة أبناء نوعه من الماء المعين لنبع الحقيقة الزلال؛ فهو كالشجرة الخبيثة المنكرة التي اجتثّت و اقتُلعت من الارض، فجذورها ملقاة علی الارض لا ارتباط لها بأصلها ومبدئها، و لا مسند لها تستند عليه.
إنّ الرجل الكافر الظالم الذي لا ارتباط له بعالم السرّ والخفيّات كمثل هذه الشجرة اليابسة بلا فائدة و بلا ارتباط بمصدر الغذاء و الارتواء.
و هؤلاء هم الافراد الذين لم يطهّروا بواطنهم، و الذين تتلوّن أعماقهم بأنواع الرذائل و الصفات القبيحة الذميمة، و هم المتردّدون المتلوّنون في الاُمور، المتردّدون في شكّهم و ريبهم بشأن ذات القيّوم، والمتكبّرون المغرورون المُعجبون بأنفسهم مقابل أبناء نوعهم، الشاكّون في الحقائق و الاُمور الاصيلة، والمعتمدون علی الامور الواهية التي لاأساس لها.
و هؤلاء مهما كان لهم في دنياهم و أُمورهم الاجتماعيّة من شخصيّة و اعتبار و جاه و شوكة و نفوذ كلمة و قدرة، إلاّ أنـّهم في عالم الواقع و في ميزان تقييم الحقائق و الواقعيّات تافهون فارغون لا وزن لهم و لا فكر ولاأصالة.
أتْبَاعُ كُلِ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَأوا إلَي' رُكْنٍ وَثِيقٍ. [23]
لانـّهم فصموا حبل ارتباطهم بربّهم، فلم يلجأوا إلی ركنٍ مكين يعتمدون عليه، و لم تشرق قلوبهم بنور العلم، فهم ـ لذلك ـ سيميلون مع كلّ ريح حيث مالت.
يُثَبّـِتُ اللَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيو'ةِ الدُّنْيَا وَفِي الاْخِرَةِ.
إنّ الله جلّت عظمته يثبّت بالقول الثابت أُولئك الذين آمنوا، أي الذين وجدوا حبل ارتباطهم بربّهم، و الذين صار لهم نزوع إلی تلك الذات المقدّسة؛ يثبّتهم في الحياة الدنيا و في العليا، أي دار الجزاء.
و القول الثابت هو الكلمة الطيّبة، و هو الارتباط بالربّ الودود. فالله سبحانه يثبّت هؤلاء بالقول الثابت في جميع العوالم؛ في الدنيا، و في سكرات الموت، و في النشئات التي تلي ذلك؛ كي يطووا هذا الطريق بقدم ثابتة و إرادة راسخة و قلب قويّ و فكرٍ مُضاء.
روح المؤمن هي الكلم الطيِّب، و العمل الصالح هوالذي يرفعه
إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّـ'لِحُ يَرْفَعُهُ.[24]
و الكلم الطيّب هو الروح الطاهرة المنزّهة ترتفع إلی الخالق سبحانه، و العمل الصالح هو الذي يرفعها إلی حيث مقام العزّة، إلی حيث العزّة المطلقة؛ إذ يقول قبل هذه الجملة:
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.
علی طالب العزّة أن يعلم أنّ جميع درجات العزّة و مراتبها منحصرة اختصاصاً بالربّ سبحانه، إنّ الكلمة الطيّبة في الآية مورد البحث، و التي كان لها أصل ثابت و فاكهة و أُكل دائم، هي الكلم الطيّب الذي يرتفع إلی الله سبحانه فيَصل إلی مقام العزّة المطلقة، كما ورد في المناجاة الشعبانيّة:
إلَـ'هِي وَأَلْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ فَأَكُونَ لَكَ عَارِفَاً وَ عَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفاً.[25]
العمل الصالح كالبنزين الذي يسبّب حركة طائرة الروح إلی فضاء عالم القدس، العالم الذي فيه حياة بلا موت، و عزّة بلا ذلّ، و غنيً بلا فقر.
و إذن فالقول الثابت الذي ثبّت الربّ العلی الاعلی المؤمنين به هو النزوع و الارتباط الذي أقرّه بينهم و بين ذاته المقدّسة، وهو موجب للعمل الصالح، والعمل الصالح بدوره موجب لحركة الكلمة الطيّبة و روح المؤمن الطاهرة إلی عالم القدس، و هذه الحركة هي حركة الإنسان في صورة إنسان واقعيّ؛ والله يعلم كم يبلغ لذّة و بهجة و نور و سرور و حبور،هذا الإنسان الذي يذهب في صورته الإنسانيّة تلك إلی مضيّفه الباري تعإلی شأنه.
كما أنّ من آثارها المعيّة و الرفقة مع الارواح المقدّسة لاولياء الله والابرار الاخيار و الصالحين و الشهداء والانبياء، وستكون حقيقتها التحقّق بمقام:
إنّ الله لايهدي الظالمين في نهجهم إلی عالم النور و السرور
لاَ يَسَعُنِي أَرْضِي وَ لاَ سَمَآئِي بَلْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤمِن بِي. [26]
وَيُضِلُّ اللَهُ الظَّـ'لِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَهُ مَا يَشَآءُ[/][/]