هل نحن على ما نبدو عليه
أَ أَنْتُمْ تخلقونه؟
أَمْ نحن الخالقون؟
طالما قلت إنَّكم إلى الحقِّ عائدون ومنه أتيتم وفيه تحيون وتموتون، وإليه ثَمَّ تبعثون، حيث لا ثَمَّ ولا أين، بل نعيش الوهم من ظننا بحسِّنا أننا بما حوالينا أو نعتقد أننا من خلاله نرقى لنحقق ذلك الأساس وبالحقيقة العكس هو الصحيح.
إذ إننا لا ثَمَّ ولا أين، بل نحن للزمان والمكان نخلق، ونحن نتوهَّم حقيقته، وهو غير موجود في عالم أحديَّته.
هل نحن على ما نبدو عليه؟ وما المقياس في إثبات أو نفي ذلك؟
هل نحيا لنموت أو نموت لنولد، وهكذا من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، لا ندري إلى أين نمضي؟
هل غاية حياتنا ما نصبو إليه من أهداف وهدفنا الأعظم هو حقَّاً الجنَّة، وإذا لم تكن هي الهدف، فهل سنذهب إلى الجحيم؟
هل القداسة خاضعة لمعتقداتنا وأفكارنا ولزماننا ومكاننا؟
«خلق الإنسان على عَجَل»، «إنَّه كان عجولاً».
ألا نرى أنَّ نصف البشر يقلُّ أو يزيد، ليسوا على عجل بالمعنى الذي تُفسَّر به، وإذا كان ربع البشر ذوي برودة طبع، ألا يكفي هذا لنسخ التفسير الدارج لصحة هذه الآية، أليست العجلة هي الدولاب والذي يسير إلى اليمين أو اليسار ويجمع النقيضين بدورانه حول نفسه ليوحد السالب والموجب معاً.
أليست الحياة بثنائيَّاتها عجلة تسير بصراع الثنائيات وفق القانون الأعظم بالفعل ورد الفعل، أليست «العجلة من الشيطان»، لأنَّها ثنائية وكل شيء مزدوج، دخله الشيطان، وأساساً لم يكن للشيطان وجود، بل «لم يرَ سري بذاتي غير ذاتي»، أي لم يكن في الوجود إلا أحدية الوجود، والتي كونت فيها بعض موجوداتها وفقاً لإرادة واحدي الذات السامية المنزَّهة، كونت كيانات مزدوجة متناقضة تحمل الضدَّيْن وتتطبع بالنقيضَيْن، فأصبحت عجلة العالم المادي تدور بسبب صراع تلك القوَّتَيْن وهكذا كانت العجلة أي دولاب الكارما الجبار أي دولاب هذا الالم من الشيطان، أي بسبب النظرة المنحرفة عن وعي الأحدية وعن نقي الأنا، وخلع الصفات تشكل نظرة تريد تكوين دائرة مضادة للدائرة الأحدية بذاتها، فخرج الليل من قلب النهار، فلم يكن له وجوداً أبداً قبل النهار، بل غاب النهار عن بعض أجزائه فأصبح ليلاً، فالليل ليس له وجود، والشيطان ليس له وجود، بل غابت النظرة عن وعي الأحدية وبمجرَّد غيابها للحظة تكونت فجوة ضدِّيَّة أصبحت تشل فرقاً كمونياً يمشي عبره التيار، فأصبح التناوب بين السالب والموجب، وبين الليل والنهنار، بسبب عملية تشكل الفجوات في وسط النهار. «ولقد جاءكم موسى بالبيِّنات ثم اتَّخذتم العِجْلَ من بعده وأنتم ظالمون».
وهكذا وُجدنا على الأرض كمخلوقات غاب عنها وعيُ أحديتها، فخلقت لنفسها دائرة جديدة لتمجيد أنانيَّتها، وكله بإرادة خالق أنانيَّتها ذاتها، أي لا يوجد ذوات إلا من واحدي الذات، ولكنها الفجوات التي تشكلت في وسط النهار، والفجوات هي نفسها التي تشكَّلت بسبب غياب حقيقتنا عنَّا وما غياب حقيقتنا إلا ببعدنا عن كونيتنا، أي عن كينونتنا، وما كوننا وكينونتنا إلا صنوان لوعي حقيقتنا، والتي منها أتينا وإليها نعود، وفيها نحيا ونموت ولكنَّنا سقطنا في فجوة العالم الضِّدِّي بسبب اختيارنا للحظة واحدة بأنْ نترك وعي أحديَّتنا، فكان ما فاتنا أكثر مما كسبناه طيلة سنوات حياتنا كلها.
«وإذا أخذنا ميثاقَكم ورَفَعْنَا فَوْقَكُم الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقُوَّةٍ واسمعوا قالوا سَمِعْنَا وعَصَيْنا وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِم العِجْلَ بِكُفْرِهْم قُلْ بِئْسَمَا يأمُرُكُمْ به إيمَانُكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين».
وهكذا فإننا اتَّخذنا العجل كرمز للعالم المادِّي الضِّدِّي الازدواجي وتركنا عالم الوحدة الرَّائع في عالم الذر والذي فيه اللحظة تعادل كلَّ الزَّمان، ولذلك بلحظة غفلة واحدة تشكَّل العجل بنا، لماذا؟ لأننا كنَّا في الزَّمان المعنوي وهذا يعني عدم وجود زمان وبما أننا لم نكن من نسل الزَّمان، فكنَّا مسيطرين عليه، فاللحظة فيه تعادل كل الزَّمان وكلّ الزَّمان يعادل اللحظة، وبما أننا تركنا وعي أحديَّتنا أو وعي حقيقتنا أو وعي كُلِّيَّتنا أو وعي كينونتنا أو ألوهيتنا أو قدسيتنا للحظة واحدة في زمن معنوي، كان ما فاتنا أكثر مما كسبناه لأنَّه بسبب تلك النظرة لدائرة الانفصال تشكَّلت فجوة، وتلك الفجوة كوَّنت فرقاً في الطاقة وازدواجية بداخلها جعلت الحياة بنا تدور على محور الزَّمان والمكان، فكانت الولادة والموت، وكان ما نرى من تعاقب الحيوات وتعاقب الليل والنهار، وهكذا سيبقى العالم يسير على عجل لأنَّ الشيطان فينا موجود ويتربَّع على عرش قلوبنا في مسيرتنا تحت وطأة الحواس في هذا الزَّمان وهذا المكان، إلى أنْ ينعم الإله علينا بتجلِّيه فينا أو علينا ليحلَّ لنا مكان فجوتنا بسبب غفلتنا تلك اللحظة المعنوية، وإحلالنا محلَّها دائرة ضدِّيَّة توسَّعت مع مرِّ السِّنين وتراكم فيها قاذورات أعمالنا التي تحتاج منا إلى تحمُّل الآلام والمعاناة، لإعادة إزالتها، وبعد تنقيتها سننتظر إرادة الرحمة الإلهية لتمنَّ علينا بالتجلِّي فينا بعد التخلِّي عن ما علق بنا، ولن يحدث ذلك ما دمنا لا نشعر بالتجلِّي بسبب جمال التجلِّي، وكيف لنا الشعور بجماله فينا ونحن أصبحنا بفجوة ضدِّيَّة اتَّسعت لدرجة لم يعد هناك وجود لما يسمَّى بدائرة نورانيَّة أو دائرة إلهيَّة في هذا العصر المادِّي الحديدي.
بل وكأننا أصبحنا «وحوشاً نائمة حول جِيَفِ أنفسها».
وأصبحنا ممن يشتغلون بحظوظ أنفسهم، وأصبحنا نظنُّ أننا نحن الخالقون ونحن الفاعلون، ولم يعد لوجود «هو الحي الذي لا يموت» وجود، لأنَّ وجوده لا يُقاس إلا بالإحساس به، ولكي نحسَد به، لابدَّ من تنقية الحواس، وهذا يحتاج ميزان دقيق للسير على الصراط المستقيم وصبر على مرِّ السنين، ليتكون بداخلنا جهاز حبِّ الجمال، هذا الجهاز الشفاف الذي يحتاج لحواس فوق حسِّيَّة ولمشاعر قدسيَّة ليرشف طعم الألوهية ويتذوَّق جمال القدسية.
«وهل يدركُ الكثيفُ اللَّطيفَ إلا بمادةٍ من اللَّطافة».
وهنا نعود إلى السُّؤال الصَّعب السهل: مَنِ الذي يخلق العالم الضِّدِّي، نحن أم هُو؟
ويكمن صعوبة الجواب على هذا السُّؤال من فقدنا للغة التعامل في محيط معرفة أجوبته، فقط لا غير، فهو ليس صعباً بل سهلاً جداً، ولكننا نسينا لغة الحقيقة ونسينا لغة القلب ولغة التَّأمُّل والتَّفكُّر، ونسينا لغة الشعور والجمال والقداسة، ولذلك تعطَّل جهاز حبِّ الجمال فينا، فأصبح الجواب على هذا السُّؤال عسيراً جدَّاً.
ولكنَّه سهل جدَّاً، فكيف لك أن تنقل طعم الحلو لمن لم يذقه في حياته، وكيف لك أن تصف اللون النفسجي القدسي لمن لم يرَهُ بحياته، وكيف لك أن تفهم على شعبٍ لغتهم مختلفة عن لغتك، إلا بالإشارة، والتلويح والتلميح، ولذلك أصبح الجواب صعباً جداً، على مَنْ لا يعرفون لغة الصمت، تلك اللغة التي تدخل في عمقها لترى لغة جديدة تسمى بصمت الصمت، وعندها تدخل في دائرة تسمَّى بكلام الكلام، وفيها تدرك كل شيء إلهاماً من خلال جهازك الخاص، جهاز حبِّ الجمال.
فأين منِّي حبيب فائق الحسن بديع العبرات.
وأين مني:
يا نسيم الريح قولي للرشا
لم يزدني الورد إلا عطشالي حبيب حبه وسط الحشا
لو يشا يمشي على خدِّي مشى
روحه روحي، وروحي روحه
إن يشا شئتُ، وإن شئتُ يشا
وعندها، من ينقل عني، من يعزف لحني، من يعرف أنِّي لست بإنِّي،
وعندها «أنت أنا وحقيقتك هي عين باطني».
وعندها لا الليل أصبحَ صبحاً ولا النهار انتهى بليل.
وعندها لا ولادة ولا موت، ولا زمان ولا مكان.
وعندها لا وجود إلا لخالق الوجود البسيط الأزلي صاحب الصور، ومغذِّي ظلال تلك الصور.
وعندها أنا أخلق عالمي الضِّدِّي والله يغذِّيني لأنَّه يحترم إرادتي، لأنَّ إرادتي إلهية تشكَّلت فيها فجوة أنانيَّة كوَّنتني أنا الإنسان، وأصبحت أسير دولاب الولادة والموت، وأسيرَ الزَّمان والمكان.
وأصبحت في عالم الفرح والحزن هيماناً وفي عالم الماضي والمستقبل حيراناً.
وفقدت بريقي ووجودي الحق.
«ألا فاذكروا، أيُّها الأخوة الأحبة الكرام، أناشيدي في مرابعكم، فجر أصباح أيام ثُلَّة المروج، وآناء ليلها وأطراف نهارها، إني لألتمس منكم أيُّها الأخوة القدامى، أن تغنوا أناشيدي أمام أعتاب أحياء المحبوب المقدَّسة، وتلمحوا بظمائي في أنغامكم، لعلَّ سيِّدي المحبوب، يرسل نَسمةً مع تلك الأنسام، فتخلِّصني من هذه الأقفاص، فأعود على أغصان أشجار تلك المروج، وأتراود كما كنت عزيزاً في جنَّات الحبيب، وحول شذا عبير ورود رياض أحبته المصطفين الأخيار».
وتتوالى الولادات وتستمرُّ الأحداث وأحسُّ بثقل الزَّمان، فقد أصبحت من نسله وتتالى بي الفجوات وأخلق لنفسي هذا الجحيم بانفصالي عن وجودي الحق، وهكذا تضيع مني الجنة الحقَّة و التي فيها القدرة الإلهية كاملة بدون فجوات، والتي لن أصل إليها بالمستقبل لأنَّ وجودها فوق الزمان، بل مرهون وجودها على قلبي وما يهوى الآن.
فلماذا أرغب في غيره هو الجميل فوق الجمال جماله؟ ألأساعد شيطان نفسي على تكوين فيروسات ضدِّيَّته والتي تحلُّ لي دمي وتقطع أوصالي وتموت شجري قبل أنْ تثمر وأعود من جديد، إلى أين؟ إنني الآن أدري… إنني الآن أدري، أنَّه علي بقوة إرادتي أن أملأ نفسي وفكري وجسمي منه هو اللانهائي، لأصبح به لا نهائياً.
ولا يصحُّ معه أي ذرة فيها فيروس فجوة ذلك الشيطان، بل كل ذرة مني ستغنِّي لحنه فيَّ ليتجلَّى فيَّ وهكذا لن أصبح هو إلا بلغة «والذي يفنى يشاهد كلَّ أسرار الوجود».
ولن أصبح هو إلا عندما يموت كلُّ شيء فيَّ ليحلَّ محلَّه هو.
فأين أنت أيُّها الـ «هو».
«مولاي! إنَّك ***** أنْ أعيش معذَّباً، أطلب القربى منك وأنت القريب الرَّحمن الرَّحيم».
وأين أنت يا الله، لأفنى وتفنى كل ذرة مني فيك، فيأتيني الجواب بأن: «انفِ الزغل من ذهبك، والزّؤان من قمحك». «فالغَبْرَة من نعليك»، ويهمس بأذني:
«لم أغب ـ أنا الله ـ عن وجودي أبداً، وسأبقى الشاهد الأبدي». ولكننا نحن مَنْ ننفصل عنه بدائرة أنانيَّتنا ووهمية فجوة ضدِّيَّتنا، بإزالة نقطة من صفحة نورانيَّتنا، فتسري طاقة فيها ازدواجية تفصل ذاته عنا، فيحلُّ علينا وبال تشكل أنانيَّتنا فنحجب نور الشَّمس عنَّا، بنظرنا لظلِّنا لأننا أدرنا ظهرنا لذلك النُّور، وعلى ذلك طريق واحد للخلاص لا غير:
«مَنْ أمات نفسه من أجلي فقد أحياها».
وطريق واحد للبقاء في سرِّ البقاء وهو:
«والذي يفنى يشاهد كلَّ أسرار الوجود، أعطني منها وزدني، بل وحطِّم تلك الكأس».
وما الكأس هنا إلا المادة، والأنا التي حجبت مياه النبع عن مصدره فانفصل بكأس جسده، فكان الكأس مُقيِّداً للماء مثلما الجسد بماديَّته وكثافته، مُقيِّداً لانفتاح وعينا الجزئي على وعينا الكُلِّي، ونفسنا الفردية لوعي روحنا الأبديَّة.
وهكذا أصبح لنا إرادة غير إرادته وهذا هو جحيمنا بحقيقته، وما جنتنا إلا بذهاب أنانيَّتنا لنعيش جمال كمال وعي أحديَّتنا بمحبَّتنا لجذوتنا النورانية بما فيها من قوة إلهية لا نهائية، فتصبح إرادتنا الفردية إرادة إلهية لأننا عرفنا عندها مَنْ نحن، لأننا حقَّاً عرفنا أننا لا نعرف حيث ذات الأنا لدرجة الصفر، فسطعت شمس الحقيقة الأبديَّة من على عرش قلوبنا النَّقيَّة التَّقيَّة، مُردِّدة همسات الأحديَّة: «ويحمل عرش ربِّك يومئذٍ ثمانية»، وإلا فإنْ لم يغب هذا الأنا حقَّاً سوف لن أعرف مَنْ أنا حقَّاً، وما الذوبان الحقُّ هنا إلا التَّوازن الدَّقيق على كلِّ مستوياتنا الوجوديَّة بما يتعبر منها من أجسام باطنية، وإلا سنعتقد بأننا وصلنا وما نحن بالواصلين، لأنَّ الإلهية المحمولة على عرش الثمانية لن تسري طاقتها الكُلِّيَّة بنا بدون نجاح دقيق في اختراق حجب المادَّة والضيق ليظهر جلَّ جلاله بعرشه من خلالنا ونحن في أدنى مستويات الوجود، حيث وعي الحس المحدود والذي لن نستطيع كسرَ إسوارة حديديَّته إلا بفنائنا كلنا بكلِّ ذرة منَّا في تسليمنا الحقيقي لإرادتنا بإرادته، فتصبح إرادته بإرادتنا، فزالت وهميَّة ثنائيَّتنا وأصبحنا نحن هو بمرآة أحديَّتنا، عندها نكون قد كَسَرْنا دولاب موتنا وولادتنا، وعشنا أحياءً مع الحيِّ الذي لا يموت يوعينا حقَّاً أننا الخالقون إذا كُنَّا له راضون مسلمون.
د.نواف الشبلي
هل نحن على ما نبدو عليه
المشرف: المشرفون
هل نحن على ما نبدو عليه
تبارك النور القدوس الذي انبثقت به الحياة